فقط إمنحهم وقتا للحب
في الماضي، كانت النظرة إلى الأب نظرة المربِّي، الناصح، مصدر القيَم والأخلاق والأمان، المثَل الأعلى، مَن يضبط عقلانية التعامل مع الأولاد بجانب عاطفة الأم، فتستوي وتتوازن الأمور. كل ذلك كان جميلاً.. حتى حدث تطوّر خطير. فجأة ولظروف ليس هذا مجال ذكرها، تحوَّل الأب إلى شخص يقوم بعمل توكيل عام أو تفويض شامل للأم لتربية الأولاد، على أن يكون هو مموِّلاً مالياً. فلكلٍّ منهما مسؤوليته الخاصة، ولا يتدخل أيٌّ منهما في اختصاصات الآخر. الأب يسعى إلى رزق الأولاد، والأم تقوم بتربيتهم. ومع واقع الحياة الصعبة، قد يضطر الأب إلى العمل ليلاً ونهاراً، وإلى كثرة السفر. وأنا مُدرِك هذا الكلام، لأنني اراها في من حولي من الذين يضطرهم عملهم إلى كثرة السفر. لكن،
بالله عليكم، يا كل الآباء والقرّاء، أن تشاركوني السؤال: هل يصح هذا التفويض؟ هل يصح أن تتحول إلى مجرد "ممول"، بينما المشاعر والتربية والتركة الثقيلة في صناعة إنسان يقدم للمجتمع تقع على كاهل الأم؟
بالطبع، هذه ليست قاعدة. ولكن لنعترف بأنه نموذج سائد ومنتشر.. أليس كذلك؟ هدفنا اليوم إذن هو "إلغاء هذا التفويض". فحقيقة الأمر، هي أن الأب قام بتوكيل الأم لتربية الأولاد، والأم قامت بتوكيل المربية، والمربية مزقت هذا التوكيل، فلم يجد الأولاد مَن يقوم بتربيتهم. - حرام هذا: ليس حراماً من أجل أولادك فقط، وإنما حرام من أجل المسلمين أيضاً، ومن أجل بلادنا، ومن أجل أن تكون هناك فائدة مرجوَّة منهم. فأنت بهذا التوكيل تكون قد قضيت عليهم. ففي حياتنا اليومية، إذا انحرف ولد ما، تجد الأب يتشاجر مع الأم قائلاً: "أين كنت وقتذاك عندما تجرّع المخدرات؟ فقد كنت أنا أشقَى ليلاً نهاراً لتربي أنت، ولكنك لم تفعلي". ولا تستطيع الأم الدفاع عن نفسها آنذاك، لأنها مُدركة أنه قد وكّلها، وقد قبلت هي هذا التوكيل. ولنكن، صرحاء مع أنفسنا.. فالأم لا تستطيع وحدها تربية الأولاد، خاصة في زماننا هذا. القارب يحتاج إلى اثنين يقومان بالتجديف، أحدهما من جهة اليمين، والآخر من جهة الشمال. فمثل هذا الأمر كمثل الأم تركب قارباً مع ابنها وتقوم بالتجديف وحدها من جهة اليمين. فهي بالتأكيد لن تصل إلى هدفها، لأن القارب بهذا الشكل يدور حول نفسه، فيشعر الولد بالدوار، وعندئذ أول ما يفكر فيه، هو كيف له أن يقفز من القارب. لَكَ أن تمنح أولادك، إمّا أشياء مادية قد يعطيها لهم أي شخص، أو وقتاً تكون فيه معهم وتُشعرهم بحبك من دون تفويض. فأيهما أغلى وأعمَق وأكثر إفادة؟بالتأكيد الوقت.
لنتفق إذن على أن نعطي أولادنا وقتاً للحُب. فالأوقات لأولادنا تعني وجود المثَل الأعلى ومصدَر القيَم والرجولة. فَمَن تَبِعات القوامة أن تعمل صباحاً وترعَى أولادك مساءً. فهم أولَى بالوقت الذي قد تقضيه مع أصدقائك هنا وهناك، وسوف تجد في هذا الوقت لذّة ما بعدها لذّة، ويكون من أحلى الأشياء التي تستمتع بها كأب إذا كنت صديقاً لهم. أريد منك قبل أن تدخل بيتك أن تضغط على مفتاح التفاعُل، وتُذكِّر نفسك بأن لكلٍّ من زوجتك وأولادك حقاً عليك، وأن تنوي محاولة إسعادهم رغم إرهاقك، وتتذكَّر أنك عندئذ سوف تشعر بالسعادة. فمن الآباء مَن يقول إنه موجود مع أهل بيته، ولكن يشعر الأبناء بأنه موجود معهم جسداً فقط بلا روح أو تركيز. أحاول هنا أن أحرك في قلوبنا كآباء مسؤوليتنا تجاههم. فهم أولادنا، فهم يحملون اسمي ومن لحمي ودمي. كيف استطعت ببساطة أن تمنح مثل هذا التوكيل؟ كيف استطعت أن تعود إلى بيتك ليلاً وهم نائمون، وأن تخرج نهاراً وهم نائمون، وأن تمر أيام وشهور وسنوات على هذه الحال؟ كيف لا تكون لحظة عيد وفرحة عند عودتك للبيت وركض الأولاد نحوك؟ إن من الأباء الآن مَن يدخل البيت فيكتئب من في داخله، ومَن يخرج من البيت فيفرح من في داخله. حديث النبي(ص): "إنّ شر الرجال مَن إذا دخل بيته اهتمت زوجته وهرب أولاده، فإذا خرج من بيته، فرحت زوجته وفرح أولاده". أيها الآباء: لاحظوا الأنبياء، سوف تجدون أن الله يذكر الأبوة مع أغلب الأنبياء في القرآن. فهم مثال للآباء الناجحين، مع العلم أنه لا يوجد مَن هم أكثر انشغالاً من الأنبياء. فمهمتهم كانت إصلاح أمم. انظر إلى سيدنا داوود وسيدنا سليمان.. (وورث سليمان داوود...) (النمل/ 16). فقد منحه داوود العلم حتى ورث سليمان داوود، وصارت مملكته أقوى من مملكة داوود، لأن أباه قد علمه. انظر إلى إبراهيم وإسماعيل.. (فلمَّا بلغ معه السعي...) (الصافات/ 102). أي كَبُرَ إسماعيل أمام عيني أبيه ومعه، وليس بعيداً عنه، ونظراً إلى صداقتهما وقربهما من بعضهما بعضاً، سوف يساعد إسماعيل أباه. يقول سيدنا إبراهيم: "يا بُني، إن الله أمرني أن أبني له بيتاً" (الكعبة). قال: "يا أبتِ، اطع ربك". فقال: "يا بُني، وتُعينُني؟". من الأبناء الآن مَن يهرب من العمل مع والده ومساعدته في الشركة نفسها. قال: "وأُعينُك". تخيَل مَن بَنَى الكعبة بيت الله الحرام؟ إنها قصة أب وابنه. فلم تُذكَر الكعبة في القرآن إلا مع ذكرهما معاً.. (وإذ يرفعُ إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل...) (البقرة/ 127). ورد ذكر "إسماعيل" في آخر الأمر، كي لا تنسى أن ابنه كان يساعد.. (وإذ يرفعُ إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم) (البقرة/ 127). وردت كل الآيات بعد ذلك بصيغة المثنى. فلا تطوف بالبيت إلا وتتذكر قصة أب وابنه ساعد وأحب كل منهما الآخر. أفلا تتذكر حينها دورك كأب؟صدّقني يا كل أب، وصدقيني يا كل أم، يجب أن نسعى جميعاً إلى إلغاء هذا التفويض أو التوكيل. وإليك هذه الأسباب لإلغائه: * أولاً: ابنك وابنتك في حاجة إليك. * ثانياً: أنت تحرم نفسك من ألذّ نعمة في الدُّنيا. * ثالثاً: سوف تُسأل عنهم أمام الله يوم القيامة. هل تكفي هذه الأسباب أم لا؟ أعتقد أنها تكفي. وأعتقد كذلك أنك اقتنعت الآن بأن لزوجتك وأبنائك حقاً عليك، خاصة في وقت تعطيه لهم وأنت تستشعر حلاوته. وقت لا يستطيع أحد غيرك أن يعطيهم إياه أبداً. وقت للحب.